قصة عفريت العمدة للكاتب محمد شعبان
"عاد التاريخ نفسه ورجع.. وبنتتبع.. نفس السُنن.. ورا أي واحد نتبع له... وفي ناس تحب تعيش خدم.. وتموت خدم.. وإن راح صنم بتجيب صنم وبتركعله"
(في ساحة قرية من قرى صعيد مصر قديمًا)
اتجمعوا أهل البلد حوالين المنصة، ومن وسط الناس قرب واحد من الغفر ومعاه الظابط حسين الدكروري، طلعوا هم الاتنين على المنصة ومعاهم فؤاد حسان اللي لابس على راسه كيس قماش وإيديه متربطة بحبل، كان مستنيهم شيخ الغفر على المنصة الخشب وقصاده حبل المشنقة، وقفوا هم الاربعة ورا الحبل، شال الغفير الكيس من على راس فؤاد وسط تهليلات وتكبيرات كل اهل البلد، صوتهم كلهم بقى أعلى لما قالوا...
"اعدموا القاتل.. اعدموا الفاچر.. اعدموا العمدة الضلالي قاتل أهله"
شاور الظابط حسين للناس بالسكوت.. ف الكل سكت، بص فؤاد للناس وابتسم ابتسامة سخرية، بعدها اتقدم خطوتين وقال بصوت عالي..
"اعدموني.. انا اه قتلت.. بس هم كانوا يستاهلوا القتل، وانتوا كمان والله تستاهلوا القتل زيهم.. ما انتوا اللي عملتوا منهم فراعنة..."
اتكلم الظابط حسين وهو بيمسك فؤاد من جلابيته المتقطعة بعنف وقال له..
"انا عايز اعرف.. انت عملت في نفسك كده ليه.."
رد فؤاد وهو بيبص للناس..
"عشان دول.. عشان يعرفوا إنهم عبيد.."
(قبل ذلك اليوم بيومين..)
خرج العمدة فؤاد حسان من داره ووراه شيخ الغفر وتلاتة من رجالته، راحوا ناحية نقطة البوليس، دخل فؤاد مباشرةً لمكتب الظابط حسين الدكروري.. قام الظابط من على مكتبه بسرعة اول ما شاف العمدة، سلم عليه بحرارة وهو بيقول له..
"نورت النقطة يا جناب العمدة.."
ضحك فؤاد وهو بيضرب كف بكف، وبعد كده شاور لشيخ الغفر وللغفر الباقيين انهم يخرجوا برة أوضة المكتب، وقعد على كرسي قصاد مكتب الظابط وشاور ناحية الباب..
"اقفله يا حضرة الظابط.. عايزك في أمر خصوصي"
جري الظابط قفل الباب، ورجع قعد على مكتبه.. وبكل وقار واحترام قال للعمدة فؤاد..
"اؤمرني يا جناب العمدة!"
حط رِجل على رِجل وبص للظابط وهو بيقول له بسخرية..
"ياااه يا حضرت.. من حوالي شهرين كنت قابض عليا وحاططني في الحجز، لا وايه.. كنت مخلي رجالتك ورجالة عمي الله يرحمه يلطشوا فيا، والنهاردة بتفز اول ما تشوفني وبتقول لي يا جناب العمدة.. يااه.. دونيا"
بلع الظابط حسين ريقه بصعوبة...
"ما ما ما انا والله ماكنتش اقصد يا جناب العمدة، وبعدين انت وقتها كنت شاب طايش، ودلوقتي بقيت جناب العمدة.. متأخذنيش يعني"
ضحك فؤاد وسعل بقوة وبعد كده قال..
"كنت وبقيت.. كل ده في شهرين بس!.. ولا عشان عمي العمدة ابنه مات وبعد كده هو مات وراه وانا بقيت العمدة، ف بتقول يعني اني كنت شاب طايش ودلوقتي بقيت عمدة وليا هيبة وسُلطة.. يا أخي غريب طبع أبن أدم، بيفضل يبص لغيره على إنه أقل منه لحد ما يوصل لمنصب اعلى من منصبه، وساعتها بيشوفه إله.. ماتقلقش كده وتفضل تبلع في ريقك عمال على بطال، انا مش جايلك عشان نقلب في الماضي.. انا جاي اسلمك مجرم.. قاتل"
ركز حسين مع فؤاد وقال له باهتمام..
"مجرم!.. مين ده يا جناب العمدة؟!"
اتعدل العمدة فؤاد في قعدته..
"الواد اللي كنت شايفه حشاش وشحات من شهرين، وعمه العمدة الظالم المفتري اللي كان واكل حق ابوه وخلاك تقبض عليه وتهري جتته ضرب، الشخص اللي انت دلوقتي شايفه عمدة وله هيبة.. هو هو نفس الشخص اللي انا جاي ابلغ عنه.. انا القاتل"
رد حسين بإحراج..
"لا لا.. حشى لله يا جناب العمدة، مقامك محفوظ.. انت.."
قاطعه فؤاد وهو بياخد نفسه بصعوبة..
"انا ايه بس.. والله العظيم انا قاتل يا حضرة الظابط، قتلت ابن عمي العمدة وبعد كده سميت عمي وخدت العمودية عافية بعد ما اتفقت مع شيخ الغفر اللي عامل زي هامان فرعون ده، وخليت كل الغفر اللي معاه زي الخاتم في صباعي، واتفاقي كان معاه على اساس إنه يسمحلي احط سم في أكل ابن عمي، وبعد كده احط نفس السم لعمي.. ولما يموتوا هم الاتنين، مش هيكون في وريث لكرسي العمدة غيري، وعشان يضمن حقه.. اديته شوية أراضي من اللي عمي كان واخدها من أهل البلد عافية.."
بص الظابط لفؤاد وهو مذهول..
"انت بتقول ايه؟!... وبعدين لو انت عملت كل ده، ف ليه جاي تعترف دلوقتي؟!"
سعل فؤاد بقوة من تاني، وقتها طلع منديل قماش وبصق فيه، بص جوة المنديل بحزن وبعد كده بص للظابط حسين..
"عشان ده شرع ربنا.. اقبض عليا واعدمني على المنصة اللي في نص البلد..."
قام الظابط وربط إيدين العمدة، وبعد كده نده لشيخ الغفر وقال له...
"الراجل ده قاتل.. بيقول انه قتل عمه وابنه عشان ياخد العمودية بالاتفاق معاك"
ارتبك شيخ الغفر وهو بيقول للظابط..
"انا.. انا ماعرفش حاجة، انا كل اللي اعرفه ان العمدة وابنه ماتوا بسكتة قلبية، هم كانوا عيانين و.."
قاطعه فؤاد وهو بيبص للظابط..
"هو فعلًا مالوش دعوة.. هو احق واحد دلوقتي بالعمودية، وإلا البلد هتبقى فوضى، اخرج وقول للناس ان شيخ الغفر بقى العمدة.. وقول لهم كمان انك هتعدمني بعد يومين..."
بص الظابط لشيخ الغفر ولفؤاد وبعد كده قال بصوت عالي..
"يا عسكري.. يا غفر.. خدوا فؤاد وحطوه في حجز انفرادي، من النهاردة شيخ الغفر هو العمدة، فؤاد قتل عمه وابن عمه عشان يبقى العمدة.. وان شاء الله هيتعدم بعد يومين.."
خدوا الغفر والعساكر فؤاد على حجز انفرادي، وقتها اتكلم الظابط مع شيخ الغفر وقال له...
"انا عارف انك متفق معاه، بس انا هعمل مش واخد بالي عشان البلد ماتتقلبش فوضى، وكمان هعلن قدام كل الناس انك العمدة الجديد، بس انا عاوز اقولك على حاجة مهمة.. انا مش هعمل كل ده لوجه الله كده.. انا يلزمني الأرض اللي قصاد النقطة دي، هبني عليها استراحة.. وأظن إن الأرض دي بتاعتك.."
ضحك شيخ الغفر للظابط...
"كل طلباتك مُجابة يا حضرت.. كل أوامرك واجبة النفاذ"
هز الظابط راسه واستعد هو وشيخ الغفر عشان يخرجوا من النقطة ويعلنوا على الناس إن فؤاد هيتعدم كمان يومين لإنه قاتل أهله، وده بناءًا على حُكم العمدة الجديد.. شيخ الغفر!
(عودة للمشهد الأول: بعد مرور يومين قصاد المنصة....)
شاور الظابط حسين للناس بالسكوت.. ف الكل سكت، بص فؤاد للناس وابتسم ابتسامة سخرية، بعدها اتقدم خطوتين وقال بصوت عالي..
"اعدموني.. انا اه قتلت.. بس هم كانوا يستاهلوا القتل، وانتوا كمان والله تستاهلوا القتل زيهم.. ما انتوا اللي عملتوا منهم فراعنة..."
اتكلم الظابط حسين وهو بيمسك فؤاد من جلابيته المتقطعة بعنف وقال له..
"انا عايز اعرف.. انت عملت في نفسك كده ليه.."
رد فؤاد وهو بيبص للناس..
"عشان دول.. عشان يعرفوا إنهم عبيد.."
بص الظابط حسين للناس اللي كانوا ساكتين، وبعد كده بص لفؤاد من تاني وقال له..
"عايز تقول حاجة قبل ما تتعدم..؟"
رد فؤاد...
"طبعًا عايز اقول... رسالتي لأهل البلد كلهم.. وليك انت كمان يا حضرت الظابط انت وشيخ الغفر.. او العمدة الجديد بقى، انتوا عملتوا من عمي العمدة فرعون.. خلتوه جبروت وسٌلطة فوق سُلطة النقطة، وعشان كده هو تجبر وقتل ابويا وطردني من داره عشان ابنه ياخد العمودية من بعده، كنتوا بالنسبة له خدم وعبيد.. سمحتوا له إنه يتفرعن اكتر واكتر لحد ما داس عليا وخلاني زي المتسولين في الشوارع، ولما جيت اطلب منه حقي اللي هو حق ابويا من قبلي.. اتفق مع الظابط وشيخ الغفر وخلاهم يضربوني علقة موت في النقطة، بس انا من يومها بقى وانا حطيت في راسي إني لازم اخلص منه ومن ابنه بالحيلة، وفعلًا عملت كده وبقيت العمدة..
وبعد ما كان عمي بيدوس عليكوا وكنتوا بتطيعوه هو وابنه، بقيتوا بتعملوا معايا زي ما كنتوا بتعملوا معاه، المشكلة مش في الكرسي ولا في الشخص اللي قاعد عليه يا عبيد.. المشكلة فيكوا.. انتوا اللي بتعملوا فرعون، وانتوا اللي بعد موته عملتوا وهتعملوا فرعون جديد، بس انا بقى حابب اقولكوا حاجتين قبل ما اتعدم؛ انا اعترفت على نفسي لأني عيان بمرض الصدر.. مابقتش قادر استحمل الكحة ولا الدم اللي بنزفه باستمرار، المرض جالي من الظلم والبهدلة وماظهرش عليا الا بعد ما بقيت عمدة، ف اعترفت عشان اتعدم وارتاح من مرضي اللي مالوش علاج، بس قبل ما هتعدم.. عاوز اقولكوا ان عفريتي هيولع في بيوتكوا بيت بيت.. نفذ يا حضرة الظابط.."
هللوا كل الواقفين، قرب الغفير والظابط فؤاد من المشنقة، حطوا الحبل حوالين رقبته، وقبل ما شيخ الغفر يفتح الطبلية اللي تحت رجل فؤاد، بص فؤاد للظابط حسين وقال له وهو بيضحك..
"الهجامة مش عفريت.. اجري.. سيب البلد واجري"
اتشاهد فؤاد، شد شيخ الغفر الخشبة، اتفتحت الطبلية.. اتعدم فؤاد، ومع خروج انفاسه الأخيرة، ابتدت بيوت البلد كلها تولع، البلد في لحظة بقت عبارة عن جمرة من النار، هرج ومرج.. كل اهل البلد بيجروا وهم بيقولوا..
"عفريت العمدة بيحرق بيوت البلد....."
وفضلت البيوت مولعة طول اليوم وسط محاولات الأهالي في إنهم يطفوها....
خلص جدي كلامه وبص لي وضحك!
بصيت له بعدم فهم وسألته..
"وبعدين يا جدو؟!"
رد عليا...
"ولا قبلين يا حبيب جدو.. نزلنا احنا من على الجبل بعد ما كنا رجعناه يومها.. ما اصل انا هفهمك.. اصل العمدة فؤاد قبل ما يسلم نفسه، جالنا الجبل.. عرف إن انا كبير المطاريد، او الهجامة زي ما كانوا بيقولوا علينا، جالي واتفق معايا على إن انا يوم إعدامه، أنزل انا واللي معايا على بيوت البلد واسرق كل اللي فيها وبعد كده احرقها ساعة موته انا ورجالتي، وبعد ما الحرايق تنطفي، نصحني وقال لي؛ انزلوا على البلد واحكموها لأن انتوا هيبقى معاكوا المال والسلاح..
ولو هتقول لي العمدة عمل كده ليه، ف انا هقولك انه كده كده كان ميت، ف حَب إنه يعاقب اهل البلد اللي ساعدوا عمه في إنه يذله، وكمان كانوا سبب في مرضه، وفعلًا نفذت كلامه وعملنا اللي اتفق معانا عليه، ودلوقتي انا بقيت عمدة البلد والغفر بتوعي بقوا هم الهجامة.. أهلك يا ابني.. اما بقى شيخ الغفر؛ ف ده اتعدم هو والغفر اللي معاه لأننا اتهمناهم بحرق ونهب بيوت الناس اللي كانوا كلهم في الساحة وقت الأعدام وسايبين بيوتهم.. والناس زي العبيد صدقوا...
اه.. ما هم بيصدقوا اللي معاه الفلوس والسلاح.. وادينا اهو لسه حاكمين البلد، والناس بقت بتعاملنا بكل خوف واحترام بعد ما كانوا طارديننا من البلد ومخليننا عايشين في الجبل لسنين زي الفيران، اما الظابط بقى.. ف ده خد ديله في سنانه وهرب من البلد وقت الحرايق، ونقلوا مكانه ظابط جديد مايختلفش عنه كتير، بقى تحت طوع العمدة الجديد، اللي هو انا.. البلد دي بلدك يا ابن ابني.. انت وابوك هتكبروا وهتبقوا عُمد بعد موتي.. والناس طول ما انتوا معاكوا السلاح.. هيفضلوا عبيد.. وهيفضلوا يخافوا منكوا وهيفضلوا مصدقين أي حاجة تقولوها.."
خلص جدي كلامه وبعد كده نام وانا نمت جنبه، فاتت سنين على قعدتي مع جدي، جدي اللي مات وبعد موته بقى العمدة هو ابويا.. ابويا اللي بعد موته هو كمان.. بقيت انا برضه العمدة.. دايرة.. دايرة وعشان افضل متحكم فيها، لازم افضل محافظ على السلاح والقوة والسلطة والمال.. وساعتها الناس هتفضل تحت طوعي وهيفضلوا زي الفيران قصادي، وهيفضلوا شايفنني فرعون زي كل العُمد اللي قبلي، دايرة وبدايتها من سنين.. من قبل حتى ما أهلي (الهجامة) ينزلوا ويحكموا البلد.. ما هو على رائيي فؤاد.. المشكلة مش في الكرسي ولا في اللي قاعد عليه.. المشكلة في العبيد اللي بيعملوا منه فرعون...