قصة لعنة صالحة للكاتبة ياسمين رحمي
مكنتش متخيلة إن بيع البيت الأثري بتاع عيلتنا هيأثر عليا وهحس بالألم بالشكل ده. البيت كان بقاله أكتر من 5 سنين مهجور مع موت آخر واحد كان ساكنه وهو عمي الله يرحمه وقبل عمي أجيال عاشت في البيت من سنة 1954 ولحد من 5 سنين فاتت، عمر بحاله. وأكيد البيت شهد مشاعر كتير، منها الإيجابي ومنها السلبي. أنا بقى مشاعري كانت جافة، تقريبًا مكنتش بحس بحاجة، أو هو ده اللي كنت متخيلاه.
أبويا كان بيوديني بالعافية هناك عشان نزور عمنا ومن قبله جدودنا، الجد والجدة المباشرين واخواتهم اللي برضه سكنوا فيه فترة، وعمتي برضه جه عليها الدور وسكنت هناك كذه سنة ، مش بس في طفولتها زي بابا، كمان في فترة طلاقها من جوزها الأولاني. وسابت البيت لما اتجوزت تاني.. في أوقات كان كذه حد ساكن في البيت في نفس الوقت، مثلًا جدي وعمي وأخو جدتي وده لإن البيت كان مكون من 3 أدوار وكل دور فيه شقة وطرقة كبيرة قدامه وأوضة خزين...
أما جدتي فماتت من زمان، من أكتر من 20 سنة وللأسف معنديش ذكريات كتيرة عنها مع إني يعني مكنتش صغيرة لما ماتت، كان عندي وقتها 22 سنة، لكني لحد الوقت ده كان عندي لا مبالاة وبرفض إن يبقى عندي أحاسيس عميقة أو ارتبط بحد أو ارتبط بالبيت نفسه...
بالنسبة لي البيت كان عبارة عن حيطان قديمة متهالكة، أساس دايب و ذوق قديم وعفش موضته بطلت من زمن، وكنت بحسه كئيب جدًا وبعترف إني كنت بخاف من أركان وأماكن معينة فيه، زي الجنينة اللي كان بقالها كتير أوي مهملة، محدش بيهتم بزرعها وأشجارها وده خلاها بقت شبه الغابات الميتة المرعبة، أغصان اشجارها كثيفة ومايلة ومتشابكة ومفيهاش ورق ، والأرض عبارة عن عشب اصفر وطينة واشواك.. كنت بعدي بسرعة من جنب الجنينة ومش ببص عليها على قد ما اقدر، وزي برضه أوض الخزين اللي في كل دور من ال3، معرفش إزاي اللي ساكنين في البيت كان بيجيلهم قلب يدخلوها ...كانوا بيستخدموها في التخزين، تخزين البصل مثلًا والخضروات اللي مش بتحتاج برودة عشان تصمد..
الأوض دي كانت مكمكة جدًا، مصدر الهوا فيها كان شباك صغير في أعلى الاوضة، هو ده اللي بيدخل الهوا ونور الشمس، ومساحة الأوضة يدوبك تساعي شخصين بالكتير وكان عندي قناعة إنها مسكونة، مش واحدة منهم، ال3!
لما كبرت أكتر بقى عندي شوية تعاطف، كنت مرتبطة بعمي وعشان خاطره كنت بروح ازوره في البيت العتيق، خصوصًا إن مبقاش ليا غيره، هو اللي كان متبقي من اخواته، ومع موته البيت اتقفل ومحدش هوب ناحيته. وحتى فكرة إننا نبيعه كانت مستبعدة وده لإن في عدد لا بأس به من الورثة ليهم حق في البيت وعبال ما ناخد موافقة الكل ونقسم الفلوس بحسب نصيب كل واحد في الميراث بعد البيع كان هيبقى صداع كتير. وبعدين مين ده اللي هيبقى عايز يشتري البيت الانتيكا المهكع ده؟
وكل اللي حسبته طلعت غلطانة فيه. البيت جاله مشتري، رجل أعمال تقيل كمان والورثة كلهم كانوا متحمسين جدًا للبيع وكلنا متفقين ومفيش جدال على نصيب أي حد. وزي السكينة في التورتة البيعة تمت في أسرع وقت وبسلاسة وبمبلغ مكناش نحلم بيه كمان.
بس أنا جالي خاطر عجيب جدًا وهو إني أروح البيت للمرة الأخيرة، أروح لوحدي من غير ما أقول لحد. اتجول فيه، في كل ركن منه، ليه، معرفش، متعمقتش في الإجابة ولا ف رغبتي الغريبة دي.
وفعلًا روحت ومقلتش لحد، استغليت إن إبني في مدرسته وجوزي ف شغله وقلت لنفسي هروح وأرجع من قبل ما حد ياخد باله...
هي دي كانت الخطة ودي كانت نيتي....
أول ما البيت بان من بعيد لقيته حاجة فخمة، فعلًا بيت أثري، بس مش بمعنى سلبي، ده أثر قيمته كبيرة، الأساسات اللي كنت بشوفها متهالكة صامدة قوية، فيها عنصر مبقاش موجود في المباني بتاعة دلوقتي وتصميمه اللي كنت شايفاه ممل، تصميم راقي ينم عن ذوق هادي رايق ودماغ عبقرية، وف لحظة حسيت بالغيظ، بإننا اتضحك علينا ومكنش ينفع نفرط في البيت ولا بفلوس الدنيا كلها، أيًا كان اللي اتدفع فيه فالطرف الشاري هو اللي أكيد كسبان.
وده من وجهة نظر فنية بحتة، قبل ما تجيلي هوجة العواطف...
مدخلتش البيت علطول، قررت أدخل الجنينة والف فيها، صحيح الجنينة كانت ميتة، الزرع أصفر ودبلان، وريحة التراب بتخترق المناخير والصدر لكن اللي يركز يقدر يميز إنها كانت جنة ف يوم من الأيام. في حد كان بيرعاها كإنها بني آدم قريب منه، جزء من أسرته أو منه هو شخصيًا.. في حد كان بيقعد فيها بالساعات، بيتابع كل شجرة وكل زرعة وكل وردة والخضرة والحشيش...
وبعدين دخلت البيت....
أنا عرفت شوية من اللي سكنوا البيت مش كلهم، ومع ذلك، كل ما عيني تقع على ركن أحس بالحنين، الحنين للشخص اللي قعد في الركن أو عدى عليه أيًا كان الشخص ده، سواء شفته أو مشفتوش، ارتبطت بيه ولا كنت منعزلة عنه.. مش قادرة أوصف بالظبط لكن...الموضوع مش رومانسي، مش مشاعر طايرة وأفكار ف دماغي أنا بس، أنا حقيقي كنت حاسه بطاقة، برسايل خفية ووجود مش شايفاه لكن حاسه بيه.. حتى إني دخلت أوض الخزين في ال3 أدوار..
لما وصلت للأوضة التالتة واللي هي كانت آخر محطة ف جولتي بقيت أحسس بإيدي على كل حاجة فيها، على كل شبر في الأرضية، كان لسه في باسكيت كده مكون من أدراج بلاستيك مخرمة مرصوصة فوق بعضها، وكان الغرض منها حفظ الخضروات زمان. في الدرج الأخير لقيت حاجة... حاجة غير الجرايد القديمة المعتقة اللي كانت مفروشة جوه الادراج، لقيت كراسة....
طبعًا التراب كان عليها أشبار وكانت مقفولة بخيط ملفوف حوالين زرار شبه زراير الهدوم...
نفضت التراب وفضلت الف الخيط في الاتجاه المعاكس وبعدين فتحتها....
كان مكتوب في أول صفحة "مذكراتي" وتحتها "أنيسة نعمان" جدتي! وااادي قعدة!
كده وش كنت هتقفش، جوزي وإبني هيرجعوا ميلاقونيش ومش فارق معايا، أكتر حاجة كانت هاماني في الدنيا في الوقت ده ، هي المذكرات اللي ف إيدي، ومش هاخدها واقراها في البيت، هقراها هنا، حتى لو ده معناه إني أبات في البيت ليلة كاملة، المذكرات دي لازم تتقري ف مكانها، في حضن البيت ده وأجوائه وإلا هتفقد كتير من سحرها، مش هيبقى ليها طعم.
وقد كان...
المذكرات بدأت من سنة 1940 مع أول يوم "أنيسة" اشتغلت فيه ف سرايا في الفيوم. جدتي كانت بتشتغل خادمة وكانت من ضمن طقم خدم، ما طبعًا سرايا لو فكناها هتعمل حاجة بتاعة 12 شقة طويلة عريضة، لازملها طقم من كل تخصص، طقم خادمين وخادمات وطقم سفرجية وطقم طباخين وهكذا....
أنيسة كتبت:
"لو حكولي على السرايا من قبل ما أشوفها، لو وصفوها زي ما أنا شايفاها دلوقتي مكنتش هصدق! كنت هقول الوصف ده مش موجود في الدنيا، الحيطان والسقف والأرضيات والسجاجيد والأثاث والخامات بتاعتهم والمساحات وعدد الأوض وتقسيم المساحات والجنينة اللي محاوطة السرايا وأشجارها وفاكتها، كل ده وصف الجنة، أمال الجنة تبقى عاملة إزاي؟"
وبعد التاريخ ده ب10 أيام كتبت كلام تاني...
"مش أنا قلت قبل كده إني اللي شايفاه يشبه وصف الجنة؟ بس المثل طلع صح "جنة من غير ناس ما تنداس!"، جنة الأرض يعني.. أنا مش قصدي عليا أنا وباقي اللي بيشتغلوا في السرايا، بتكلم عالمسكين "فتحي"، الولد الوحيد للباشا ومراته.. الباشا ومراته اتفقوا إنه يتعلم تعليم منزلي وبقوا يجيبوله مدرسين من كل مجال وبصراحة الولد تعليمه كان عالي، يمكن أحسن من اللي بيتعلموا في المدارس، لكن هو ده بس اللي اهتموا بيه "التعليم"، وهم مكنش ليهم وجود في حياته. "فتحي" متعلمش أي حاجة منهم بشكل مباشر، احتكاكه كان بس بالمدرسين، واللي عملت دور الأم كانت الدادة "صالحة"، هي دي اللي وعي عليها، ربته، مكنش بيغيب عن عنيها، كانت بتأكله وتشربه وتحميه وتنيمه وتقعد تسليه. وأكيد وجود الدادة أو 10 معاها مكنوش هيعوضوا غياب الأم. والولد كان باين عليه الحزن دايمًا، عينه مكسورة وصوته واطي، ده لو أتكلم أصلًا، مكناش بنسمع صوته غير كل فين وفين...
الدادة "صالحة" عندها حوالي 20 سنة. أما قصتها فالله أعلم بيها! اللي سمعته عنها إن "كاريمان" هانم لقتها مع جوزها الباشا مرمية في الغيط وده خلال جولة من جولاتهم عشان صيد الطيور. الكلام ده من 8 سنين، يعني كان عندها وقتها 12 سنة تقريبًا. كانت من غير هدوم وواخدة وضعية الجنين ومش بتنطق ولا بتتحرك. لما اتأكدوا إنها لسه عايشة قرروا ياخدوها معاهم في السرايا القريبة من الغيط، السرايا اللي أنا قعدة فيها واللي قرروا بعدها يستقروا فيها وتبقى سرايتهم الأساسية. بعد علاج واهتمام دام لشهر بدأت تتكلم لكنها مكنتش بترد على أي سؤال متعلق بماضيها ولا الظروف اللي خلتها تبقى في الغيط بالشكل ده، مكنوش عارفين هل هي فاقدة الذاكرة ولا مش عايزه ترد على الأسئلة دي، مش عايزه تواجه ماضيها وتتكلم عنه. المهم إنهم سموها "صالحة" وقرروا إنها تفضل معاهم علطول. وقتها الاتنين كانوا لسه عرايس جداد مبقالهمش كام شهر متجوزين، حددولها دور وهو إنها تساعد في رعاية أولادهم اللي لسه ف علم الغيب. وبرغم تأخر الخلفة وولادة "فتحي" بعدها بسنتين كاملين لكن هم مفكروش يستغنوا عنها وكانوا متأكدين إن ربنا هيرزقهم بطفل ولو بعد حين ودورها هييجي هييجي.. من حكاوي اللي بيشتغلوا في السرايا كانوا ناس مختلفة تمامًا!
"أمجد" باشا و"ناريمان" هانم.. أديني أهو حتى وأنا بكتب في مذكراتي الخاصة اللي محدش بيطلع عليها غيري برضه محافظة على الألقاب من خوفي منهم. المهم إن ليهم رهبة جبارة! لكن مكانوش كده زمان، كان واضح إنهم فرفوشين، عندهم طاقة إيجابية ودايمًا ف حالة بهجة وطاقة حب كمان وتعاطف. اللي يخلي ناس تتبنى طفلة ميعرفوش أصلها ويشغلوها عندهم ويقرروا إنها تساعد في تربية ابنهم حتى مع تأخر الخلفة يبقى أكيد الناس دي يعرفوا ربنا وأخلاقهم عالية، وبرضه واضح إنهم كانوا ناويين يبقى ليهم دور كبير في تربية ابنهم، يفضلوا حواليه وميسبهوش.. إيه بقى اللي حصل وغير كل ده، أموت وأعرف! الناس اللي شايفاهم دلوقتي وبتعامل معاهم مش هم اللي زمايلي بيحكوا عنهم، لا في ف وشوشهم بهجة ولا ف معاملتهم لبعض حب ولا ف معاملتهم لينا رحمة! لما بيبقوا موجودين وده مبيحصلش غير أيام معدودة كل شهر بنبقى على أعصابنا، مستنيين الضحايا اللي هييجي عليهم الدور، اللي هيتعاملوا بقسوة وهيتهزءأوا على أتفه الأمور ويمكن كمان يتقطع عيشهم....
يوم 10 فبراير سنة 1942 أنيسة كتبت:
"في حاجة اتغيرت ف "فتحي"، فتحي مبقاش كئيب وانطوائي زي الأول، بقى عنده ثقة أكبر بنفسه، بيبص لأي حد ف عينه وهو بيتكلم وأظن إن ده نابع من تخطيه فقدان أمه، "فتحي" بقى خلاص بيعتبر داده "صالحة" أمه الحقيقية و"كريمان" هانم هي الأم البديلة وده تكريم ليها ، يمكن جواه مكنش بيعتبرها أم أصلية ولا بديلة! واحنا برضه بقينا ف مقام أهله، بنقضي معاه الأوقات كلها اللي مش بنشتغل فيها، بنسمع مع بعض الراديو واللي بيعرف يقرا فينا بيقراله القصص وبنلعب معاه كمان، وأبوه وأمه لساهم مشغولين بسفرياتهم وجولاتهم والحياة بمبي من غيرهم! ومعلش، هي أيام معدودة اللي بتيقى تقيلة، اليومين اللي بيقضوهم في السرايا، أهو، نستحملهم ونحاول على قد ما نقدر منستفزش الهانم، مع إن دي مهمة صعبة أوي ولحد دلوقتي محدش يعرف هي ليه بتتعصب ولا يتوقع إمتى هتنفجر...
مطلوب مننا حتى إننا نستحمل مناظر اللي بيتعاقبوا من غير ما يطردوا...اللي بيتسحبوا من وسطنا للإسطبل وبيرجعوا مش عارفين يقفوا على رجليهم وهدومهم متغرقة دم وضهرهم متقطع من الكرباج اللي نزل عليهم من غير رحمة. معلش، هم يومين وبنرجع للنعيم اللي فيه، نعيم السرايا والحرية ووجودنا مع "فتحي" الملاك...
2 أبريل سنة 1942 كان مكتوب تحتها:
"أنا لسه مش مستوعبة اللي حصل، أي حد، أي حد فينا كان معرض للطرد إلا هي، إلا "صالحة"!
كان واضح جدًا.. كلنا متأكدين إن الهانم اتلككتلها وافتعلت موقف عشان تطردها، وده لإن "كريمان" في العودة الأخيرة من سفريتها وفي الليلة الأولى راحت لأوضة "فتحي". قعدت على سريره فقلقته وصحي من نومه. مدت إيدها وهي بتبتسم له، كانت ماسكة حتة شيكولاته وبتديهاله..
"فتحي" بصلها وبص للشيكولاتة ببرود وبعدين قال لها : "مش عارف إذا كان ينفع اخدها دلوقتي ، إحنا بليل وممكن الحاجة الحلوى تفوقني، هروح استأذن ماما "صالحة" الأول!
"كاريمان" دمها اتحرق والغيرة كلت قلبها، فجأة ادركت إن "فتحي" بيحب صالحة عنها وبيقدرها ويمكن كمان معتبرها أمه ومشاعره تجاهها هي بقت جافة. أكيد فكرت ف نفسها ساعتها إن الوضع ده مش ممكن يستمر، لازم تعاقب "صالحة" وتبعدها عن حياة إبنها...
تاني يوم ف وقت الغدا الموقف السخيف حصل... أتقدم للكل على السفرة، الباشا وهانم وفتحي الأكل ومن ضمن الأطباق كانت شوربة..مع أول معلقة منها "فتحي" صرخ. "كاريمان" قامت من آخر السفرة جري، ودي مش عادتها، والله لو كان حصل له إيه قبل كده، كان حد تاني هيجري عليه يشوفه وفي الغالب بتبقى "صالحة"... وده برضه اللي حصل المرة دي . "صالحة" جت من آخر الدنيا عشان تشوف الولد.. وبحركة عنيفة "كاريمان" زقتها وهي اللي فضلت تسأل "فتحي" وتقول له:
-مالك يا حبيبي؟ مالك؟ فهمني.
قعد وقت مش عارف ينطق وبعد شوية رد بكلمة واحدة: "الشوربة". لا هي ولا الباشا كانوا لسه داقوا الشوربة. ولما "كاريمان" اخدت معلقة اكتشفت أن كان محطوط فيها شطة والولد ميستحملش الشطة. المفروض إن دي تكون غلطة الطباخ، لكن الطباخ مش هو اللي كان بيعمل الشوربة، "صالحة" اللي كانت بتعملها، وده لإن "فتحي" اتعود إنها تعملهاله من وهو صغير ومبقاش عارف ياكلها غير من إيديها. كلنا عارفين إن "صالحة" محطتش شطة في الشوربة وكلنا عارفين مين اللي حطها. في وقت ما "كاريمان" اتسللت للمطبخ في عدم وجود الطباخ والسفرجي والخادمين أو ف وجودهم وحطت الشطة من غير ما ياخدوا بالهم وده كله عشان تفتعل موقف يبررلها اللي عملته بعد كده...
"كاريمان" هاجت كإنها بركان متفجر، فضلت تزعق ل"صالحة" ومدت إيدها عليها كمان خلال انفعالها الكداب. وبالطريقة دي خلت "أمجد" هو كمان يغضب عشان ف نظره "صالحة" أذت ابنه. وده اللي خلاه يسلم بالأمر اللي أدته وهو إن "صالحة" تاخد بعضها وتمشي من السرايا.
3 أبريل 1942:
اللي كلنا مكناش عاملين حسابه بما فيهم "كاريمان" هانم هو حالة "فتحي"، "فتحي" من إمبارح، من وقت ما سمع أمه بتطرد "صالحة" وهو ف حالة إنهيار عصبي، مش مبطل صريخ وعياط ومش بيسيب "صالحة"، حرفيًا مش بيسيبها، ماسك في طرف عبايتها وبيمشي وراها ف كل حته وده خلى "كاريمان" تديها مهلة شهر عبال ما الولد يهدى ويستوعب فكرة إنها مش هتبقى موجودة ويتأقلم...
"صالحة" حاولت تهدي "فتحي"، من إمبارح بتحضنه وبتطبطب عليه وبتردد إنها لسه هتقعد معاها شوية كمان، مش هتسيبه مرة واحدة، وقالت له ممكن يكون ليهم لقاء تاني في المستقبل، يمكن متبقاش دي النهاية، لكن هو عارف إنها بتضحك عليه، برغم براءته وطيبة قلبه هو عارف، وهي عارفة أنه عارف إنها بتضحك عليه. منظرهم هم الاتنين يقطع القلب، أنا حرفيًا بنهار من جوايا بس متجرأش أبين ده، دموعي مع باقي الخدم والعاملين بتنزل بصمت على خدودنا وبنمسحها أول بأول قبل ما الوحوش يشوفوها.
6 أبريل 1942:
"في حاجة اتغيرت! بعد كسرة النفس والقهرة اللي "صالحة" كانت فيها وإصرارها إنها تفضل ملازمة "فتحي" طول الوقت، لمحت ف عينيها شيء مختلف، ومضة... الومضة اللي مصدرها بيبقى شعلة غضب وحقد، "صالحة" فجأة أدركت الإهانة اللي اتعرضت ليها، والانكسار اللي كانت فيه راح لحاله واتبدل بمشاعر سلبية، غضب رهيب ويمكن كمان رغبة ف الانتقام...
يمكن أكون مزوداها حبتين، إنتقام إزاي يعني؟ وهو إيه اللي "صالحة" تقدر تعمله، إيه مظاهر الانتقام اللي ممكن تعملها؟! طيب لو قلنا إني بتوهم، إيه تبرير انعزالها في أوضتها ورفضها تتعامل مع أي حد حتى "فتحي"؟ إزاي قدرت تبعد عن "فتحي" وهم اللي كانوا مبيتفارقوش؟! في حاجة بتحصل ل"صالحة" ، قد يكون مثلًا اكتئاب حاد. في كل الأحوال أنا قلقانة، معرفش، عندي نغزة ف قلبي وحاسه إن القصة دي هتنتهي بطريقة مش ظريفة أبدًا، حاسه إننا قدامنا مفاجأت...."
28 أبريل 1942:
"الرمل اللي في الساعة قرب يخلص، فاضل يدوبك كام حباية. العد التنازلي بدأ وكمان كام يوم حياتنا كلها شكلها هيختلف، "صالحة" هتختفي من السرايا. محدش عنده فكرة حال "فتحي" هيبقى إيه وأظن كمان "كاريمان"، أظن وبرغم إنها مسافرة كالعادة ومش موجودة ومش شايفه وشها قدامي ولا تصرفاتها لكنها أكيد اتهزت، يمكن كمان ندمت على قرارها بطرد "صالحة". أصل وبعدين؟ لما "صالحة" تمشي "كاريمان" هتعوض "فتحي" إزاي؟ هل هتقعد معاه مكانها وتستغنى عن سفرياتها وسهراتها وحياتها المرفهة؟ هتعرف تتخلى عن أنانيتها ونرجسيتها؟ الإجابة أكيد لأ.. "كاريمان" معملتش حسابها ف هوجة الغضب في البديل، مفكرتش لثانية ف مصلحة إبنها، كان الدافع برضه أنانيتها والانتقام لذاتها وكرامتها. لكن دلوقتي مبقاش ينفع تتراجع عن قرارها، شكلها هيبقى عامل إزاي قدام العاملين بتوعها؟ هيقولوا عليها إيه؟ عمرها ما هترضى تبان بالضعف ده قدامنا، مش ممكن ترجع.
مش قادرة أفهم لحد دلوقتي انعزال "صالحة" ف أوضتها ورفضها الخروج منها إلا للحاجة ورفضها التعامل مع أي حد فينا وأنا من ضمنهم.
2 مايو 1942، الكلام اللي اتكتب تحت التاريخ ده كان مميز، ومرعب:
النهارده "صالحة" مشيت. المفروض أكتب إن فترة المهلة، اللي هو الشهر الأخير عدى بسرعة عشان يعني "صالحة" هتمشي وكده، لكن ده محصلش، الشهر عدى ببطء شديد وخلاله، خلال كل الأيام مكنتش مرتاحة أبدًا....